رسالة مراد دهينة من داخل السجن

ألقي القبض على الدكتور مراد دهينة العضو المؤسس في حركة رشاد والمدير التنفيذي لمنظمة الكرامة، يوم 16 يناير 2012 في مطار أورلي في طريقه إلى جنيف، وذلك في أعقاب طلب تسليم  صادر عن النظام الجزائري ،  ومنذ ذلك الحين، يوجد رهن الاعتقال بسجن لاسنتي بباريس، في انتظار صدور قرار من المحكمة.
في هذه الرسالة التي كتبها يوم 6 مارس من داخل السجن، أي  بعد مضي 51 يوما من الاحتجاز، وقبل أسبوعين من تاريخ جلسة استماع أمام المحكمة، والتي يتوجه من خلالها إلى ذويه والمقربين منه، يشرح فيها مراد دهينة الأسباب وراء  رفضه بأن يسلم إلى النظام الجزائري، ويوضح كيف يعتزم الدفاع عن نفسه للتصدي لهذه المحاولة الجديدة من النظام الجزائري، الرامية إلى تحييده وكتم صوته، كما يستشف القارئ من هذه الرسالة، معنوياته المرتفعة في هذه الظروف الدقيقة.
“يمكن تدمير الإنسان، لكن لا يمكن هزمه” إرنست همنغواي *
ثمة سؤال ما فتئ يطاردني ذلك اليوم، أقصد الاثنين 16 يناير، 2012، يوم كنت مكبلا، بداخل سيارة  تقلني بسرعة فائقة، وهي تطلق صفارات إنذار، متجهة  من مطار أورلي إلى محافظة الشرطة بمقاطعة باريس لوفالوا حيث  أبلغت للتو أنه قد تم القبض علي بناء على مذكرة توقيف من النظام الجزائر، في انتظار تسليمي إلى سلطات بلدي.
وقد سألني  القاضي الفرنسي الذي مثلت أمامه، إن كنت أوافق أم لا  على عملية تسليمي. حتى وإن كان من الواضح أن  طلب السلطات الجزائرية مجرد حيلة الغرض منها التصدي لآرائي  وأنشطتي السياسية، مثلما أوضحته لضابط الشرطة الذي قرأ علي محتوى المذكرة، فلا يمكنني أن أتجاهل القيود التي تعود بالأساس إلى  طبيعة  العلاقات الجزائرية الفرنسية، وما تتميز به من خصوصية وتصورات معقدة.
إذا وضعنا هذه الاعتبارات،  في سياق الإيمان الذي يجرك وجداني والقيم التي أأمنا بها من داخل أعماقي، ألا يمكنني أن اعتبر ذلك مؤشر بالنسبة لي، يحثني على العودة إلى الجزائر؟  إنني أدرك بالطبع   المخاطر التي ينطوي عليها مثل هذا القرار، علما أنه لا يزال يوجد من بين عناصر النظام الجزائري، من لن يترددوا لحظة على إضافة  اسمي ضمن قائمة الآلاف من المفقودين أو الذين يعدمون خارج نطاق القضاء.
لكن حتى في هذه الحالة، أليس من الطبيعي، بل ومن الضروري، بالنسبة لمعارض مثلي  قبول احتمال الاستشهاد إن تعذر تحقيق المبتغى على طريق الكفاح أثناء حياة المرء؟ أليس هذا هو نفس المصير الذي واجهه العديد من صفوة البشر، منهم على وجه الخصوص أصحاب الأخدود (القرآن الكريم، الآية 85:4) وسقراط،، وعيسى عليه السلام، والنصارى تحت حكم  دقلديانوس،  والقديسين الدوناتييون في شمال أفريقيا، وسمية في مكة المكرمة، أو العربي بن مهدي القريب جدا من عهدنا؟
لقد نشأت هذه الأفكار التي كانت تراودني  انطلاقا من تصوري للعمل السياسي النبيل: رؤية عقلانية، وصرامة في التوجه، والتخطيط في العمل،الذي يكون بدوره خاضعا دائما للإيمان والقيم.  وخلال تأملي هذا، بحثت أيضا في خيار أكثر “تفاؤل”، كفيل بأن يجعل عملية تسليمي فرصة للتنديد، من داخل الجزائر، استخدام العدالة في الصراعات السياسية.
لكن سرعان ما أسقطت من اعتباري هذا الخيار وذلك لسببين:
1)  سرعة تأكيد السلطات الجزائرية  مذكرة التوقيف، لم تتجاوز ساعتين إلى ثلاث ساعات فور  القبض علي في أورلي،  و2) المبرر ذاته الوارد في المذكرة “تشكيل مجموعة مسلحة إرهابية في سويسرا، وزيوريخ. ” إنه لأمر مضحك ومستهجن أن يصدر قاضي مذكرة من هذا القبيل، لولا خطورة الوضع، وبقدر ما يدل ذلك على فراغ هذه الاتهامات، يبين أيضا العزم الصارم على إسكاتي، لكن مع ذلك الرسالة كانت واضحة، مثلما هو الشأن في كل الديكتاتوريات، فقد قلص النظام في الجزائر القانون وحجمه إلى قوة يوظفها بحيلة وخداع.
في نهاية المطاف، فإن اعتبارات أخرى هي التي دفعتني لاختيار معارضة عملية تسليمي، بالفعل كانت ستوفر لي هذه القضية، فرصة  للبرهنة من خلالها، أمام  نظام قضائي مستقل، نبل كفاحي، وأن أدحض محاولة أخرى لتشويه سمعتي وتلطيخ صورتي، وأخيرا كشف وتعرية استغلال المحاكم في الجزائر وتوظيفها لأغراض لا علاقة لها بالقانون أو العدالة
من جهة ثانية، كان من شأن إصدار قرار لصالحي، من قبل  مؤسسة قضائية في دولة القانون، أن يساعد – كسابقة قضائية -  أشخاص آخرين مهددين هم أيضا بإجراءات مماثلة. وأخذا في الاعتبار كافة هذه المعطيات، ألغت القاضي بأنني أعارض تسليمي إلى سلطات  بلدي
وبذلك يتبين ضمنيا، بقدر ما أملك ما هو متاح لي لاتخاذ القرار، أن عودتي إلى الجزائر، ذات الصلة بنضالي من أجل دولة تكون السيادة فيها للقانون، وفي إطار حركة رشاد، سوف تتم لا حقا  إن شاء الله، ووفق  جدول أعمال أنا من يحدده.
ولدى مباشرتي هذه  الإجراءات القانونية في فرنسا، كنت أشعر، مع ذلك، -  ولا زلت -  بعض الحرج، إلى أي مدى، سوف أجد نفسي مجبرا على فضح وإدانة  حالة الانحطاط والانحراف الذين نخرا جسم المؤسسات الرئيسية في بلدي؟
كان علي أن أهتدي إلى سبيل متوازن بحيث لن أذاهن المسؤولين عن ذلك الخراب، مع المحافظة في الوقت ذاته، على كرامة بلدي وبعث الأمل في إمكانية تغيير قادر على إنقاذ البلد. الحجج التي أسوقها لا يمكن أن تختزل في حجج شخص همه الوحيد  ”إنقاذ نفسه” فقط، ولكن على العكس تماما، أريد من خلالها أن أسهم في هذه الظروف أيضا ، إلى إخراج بلدي من هذا الانهيار.
علينا أن نذكر مرة أخرى أنه لا ينبغي أن نترك  الجزائر معزولة رهينة بين أيدي هؤلاء الذين يعتقدون أنهم  ”آلهة” البلد، يخولون أنفسهم حق القضاء على من يعتبرونهم في مرتبة “دون البشر”
لا لشيء سوى، لرفضهم الانصياع لإرادتهم والانحناء أمام جبروتهم.، كما ينبغي أن  نبين أن ”العدالة”  الجزائرية  قد فقدت كل مصداقية. أليست هي من عجزت، أو لم تكن راغبة أصلا، باعتبارها خاضعة للأوامر،  إجراء التحقيقات الواجبة ومعاقبة  وفق القانون، المخططين والمنفذين والذين سمحوا بارتكاب المجازر الرهيبة التي ذهب ضحيتها  مئات الجزائريين على أبواب الجزائر العاصمة؟
لا يساورني أدنى شك أنه لا يزال يوجد أشخاص صادقين ونزهاء  في أوساط القضاة وفي المؤسسات الجزائرية الأخرى، غير أن مجال المناورة المتاح أمامهم سرعان ما يتلاشى بمجرد الاقتراب من ”الخطوط الحمراء”  التي رسمتها السلطة الحقيقية.
ولا زلت اليوم،  أكرس حياتي من أجل الكفاح الذي أخوضه في إطار حركة رشاد، والعمل مع جميع مواطنينا  من أجل سيادة القانون والحكم الراشد عبر استخدام وسائل غير عنيفة.
وبهذا التصور والروح المعنوية، سوف أتقدم  في جلسة الاستماع في 21 مارس 2012  التي سيصدر خلالها  القضاة الفرنسيون قرارهم حول طلب التسليم المقدم من قبل النظام الجزائري. لقد تصرفت دائما في إطار القانون، وهذا يجعلني مرتاح  الضمير أمام  عدالة دولة تعود السيادة فيها للقانون.
لقد عمد النظام الجزائري طيلة ما يقرب من عقدين من الزمن - من خلال جناحه  الأكثر تطرفا – على تلطيخ سمعتي  تشويه صورتي، قصد تقييد حركتي ونشاطي، وقد استعان النظام في ذلك  بمخابره في الخارج، وإن كنت قد نجوت حتى يومنا هذا ، فالفضل يعود للعناية الإلهية وحدها لا غير.
لقد استخدم هذا النظام عدة خدع ومغالطات متعمدا الخلط في استخدامه المبالغ الأنماط تارة “إسلامي” تارة أخرى “إرهابي”  لتحريض كل من كانوا - وما زالوا - من المفترض مراقبتي، خاصة الأجهزة الأمنية المختلفة في  الدول الغربية.
وللمفارقة، فهذه المراقبة هي بالتحديد التي تبين بشكل واضح بأنني لم أرتكب أي شيء  غير قانوني في هذه البلدان!  وأنا على الإدراك تماما أن بعض المصالح لا تزال تنظر إلي “بعين الريبة” لاسيما تلك التي لها  أجندا “قائم على التدخل في شؤون الدول” ولا ترتاح بتاتا لآرائي السياسية، حيث تعتبر حرصي على استقلالية بلدي نوعا منن التعنت.
ستكون هذه المحاكمة بالسبة إلي فرصة  لأذكر من خلالها  أسباب معارضتي للسلطة الحاكمة في الجزائر، منها على وجه الخصوص ما يلي.
1) رفضي لانقلاب يناير 1992، وكون أن تصور وممارسة الحكم في الجزائر لا يزالان حتى اليوم  منبثقان من أعماق القاعدة المجموعة التي قادت هذا الانقلاب، ولا يمكننا التخلص منها إلا عندما تعود سيادة لشعب المعبر عنها بحرية وعلى نحو فعلي، من خلال الاقتراع العام، وعندما تتوفر الضمانات على الكفيلة بمراقبة ديمقراطية لوسائل الإكراه التي تمتلكها الدولة، خاصة الجيش وأجهزة المخابرات.
2) معارضتي لسياسة ما يسمى بـ ”المصالحة” التي لا تعدو كونها مجرد قوانين تفرض واجب “النسيان” (وتحضر واجب الذاكرة)، وتكرس الإفلات من العقاب، واستدامة نظام سياسي مفلس. اعتقد جازما،  بعيدا عن أي روح الانتقام،  أن فقط واجب الحقيقة والذاكرة وحد أدنى من العدالة، سوف يمكن الجزائريات والجزائريين من طي صفحة الحزن الذي عمّر عقودا، وليستشعرا بشكل تام، هول ما حدث لهم، ليخرجوا بنتيجة مفادها “لن نسمح بأن يتكرر ذلك، أبدا”، والسير جميعا على طريق إقامة دولة قانون حقيقية  تضمن كرامة جميع مواطنيها.
3) رفضي بأن أبقى مكتوف الأيدي وأشاهد بلدي يتجه نحو الهاوية،  بسبب إصابة الماسكين بالحكم بجنون العظمة، وانعدام الكفاءة واستشراء الفساد والمحسوبية.  إن سبب هذا الوضع المزري قد لخصه بكل وضوح العلامة أبو حامد أبو الغزالة  (القرن الحادي عشر) الذي يرى أن فساد المجتمع هو نتيجة فساد الأمير (الحاكم)، التي هي بدورها ناجمة عن فساد النخبة الجشعة.
بعيدا عن كل تطرف، اخترت ألا أبقى غير مبالي في وجه يا يحدث من انجراف، لأنني مقتنع تمام الاقتناع بأن بلدي لا يزال يزخر بالرجال والنساء الشرفاء، وهم مستعدون لتقاسم رؤية وحلما، طريقا يوصلنا إلى ما نرومه من حرية وشرف وكرامة.
إن انشغالي هذا المرتبط باستعادة الكرامة في منطقتنا برمتها، هو الذي جعلني في السنوات الأخيرة، أتشرف بإدارة منظمة الكرامة، وهي منظمة غير حكومية لحقوق الإنسان في العالم العربي.
بالإضافة إلى  الفرصة إلي اتيحت إلي للعمل إلى جانب أشخاص وهبوا أنفسهم من أجل تحقيق مهمتهم، فقد تمكنت أيضا من المساهمة المتواضعة  لتصبح  حقوق الإنسان العالمية، كما وردت في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والعهد الدولي الخاص  بالحقوق المدنية والسياسية أو اتفاقية مناهضة التعذيب، أدوات ملموسة لحماية عشرات الآلاف من الضحايا في العالم العربي.
وقد تمكنت  الكرامة من بعث الأمل في النفوس و المساعدة على الإفراج عن مئات ضحايا الاستبداد، كما ساهمت في توعية المضطهدين بحقوقهم  وإضفاء معنى  أكثر واقعية، في العالم العربي، لمفهوم  حقوق الإنسان.
وسأختم هذه الرسالة لأعرب عن خالص شكري لجميع الموطنات والمواطنين الذين وقفوا إلى جانبي في ذا الظرف الصعب، أعربوا عن دعمهم وتضامنهم معي.  إن قلب السجين السياسي لا يتوقف على التفاؤل،  لأنه يعلم أن ما وراء الجدران التي تحجب عنه حريته، يشاركه الكثير أفكاره وأهدافه، ويعملون دون كلل لتجسيدها على أرض الواقع
مراد دهينة
سجن لاسنتي، باريس 6 مارس 2012
“يمكن تدمير الإنسان، لكن لا يمكن هزمه” في  كتاب العجوز والبحر بقلم إرنست همنغواي، كنت جدت نسخة منه في اليوم التالي لاعتقالي في السجن لاسنتي.  وبينما كنت لا أزال طفلا، شهدت ذات الفلم المستمد من هذا لكتاب، يقوم فيه  سبنسر تريسي  دور الصياد العجوز
ترجمة: رشيد زياني شريف
عضو مجلس حركة رشاد

No comments:

Post a Comment